تلاحقت الأزمات داخل حزب النور بشكل أثار دهشة الكثير من المتابعين الذين وقفوا متعجبين أمام مشهد الإنقسامات التنظيمية داخل الحزبو التي أثمرت عن إزدواجية وتصارع على مقاعد رئيس الحزب وتشكيل الهيئة العليا للحزب بين فريقين يتنازعان الشرعية وتبودلت الإتهامات من كلا الطرفين بخصوص المخالفات اللائحية المتعلقة بإجراء الإنتخابات الداخلية للحزب ثم تجميدها لاحقاً والمخالفات السياسية بخصوص ما ثبت من قيام بعض قيادات حزب النور والدعوة السلفية بإجراء إتصالات مع الفريق أحمد شفيق قبل جولة الإعادة من إنتخابات الرئاسة 2012، في تعارض واضح مع قرار الحزب بدعم الدكتور محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة والتيار الإسلامي في المجمل في هذه الجولة. وبرغم سخونة هذه العناوين أتصور أنها مثل قمة جبل الثلج العائم التي لا تظهر إلا أقل القليل من طبيعة الأزمة وخلفياتها. يتحدث البعض عن الأزمة بوصفها صراع بين السياسيين و المشايخ داخل الحركة السلفية وهو وصف تعوزه الدقة والعمق في تشخيص طرفي الخلاف وأسبابه وسياقاته. وفي تقديري إن الإنقسام الحاصل داخل حزب النور هو إختلاف مهم حول حاضر ومستقبل العمل السلفي السياسي بين رؤى فكرية وتنظيمية متناقضة قد تبحث عن مبررات إجرائية لكنها تبقى تعبيراً عن إشكاليات أعمق خاصة بالعمل السياسي للتيار السلفي في مصر عقب ثورة يناير 2011 والتحولات التنظيمية والفكرية والمؤسسية التي صاحبت عملية التسييس. وأتصور أن السرعة التي دخل بها السلفيون إلى المجال السياسي كانت عائقاً أمام إجراء المراجعات الفكرية والتنظيمية اللازمة ليس فقط لحل الإشكالية المستعصية الخاصة بكيفية تنظيم العلاقة بين الدعوي والحزبي ولكن أيضاً- وبشكل أكثر أهمية- كيفية بلورة النموذج الإسلامي المتميز في المشاركة السياسية وهو الإستحقاق الأبرز على خريطة حركة إسلامية مشروعيتها تستند على مدى تميزها الأخلاقي والقيمي ورأسمالها الإجتماعي وقدرتها على إحداث التغيير القيمي والثقافي المنشود. وإذا ما كان التحدي الأبرز أمام جماعة الإخوان المسلمين هو تحدي توزيع المغانم والمواقع السياسية على اعضاء وجمهور الإخوان بشكل يحفظ التماسك والإنضباط التنظيمي و ا يخل بالصورة الطهرانية للجماعة في آن واحد، فالتحدي الخاص بالحركة السلفية هو كيفية تقديم نموذج إسلامي متميز للعمل السياسي. نموذج يحافظ علي الطبيعة المجردة للفكرة الإسلامية تاريخياً (أي عدم إختزالها في جماعات و مؤسسات متعينة) ويكون كفء سياسياً وإنتخابياً وقادراً على التكيف مع الواقع المتغير وفي نفس الوقت يستطيع إستيعاب السيولة الداخلية داخل التيار السلفي بكل تبايناته وإختلافاته مع الحفاظ على كلاسيكية المنهج السلفي المتميز في آن واحد. وهو ما تبدو الحركة السلفية المصرية بذراعها الرئيسي حزب النور بعيدة عن تحقيقه حتى الآن مما قد يفتح الباب أمام بروز قوى سلفية حزبية جديدة قد تكون أقدر على مواجهة هذه التحديات.
وعلي عكس جماعة الإخوان المسلمين- التي هي في الأساس تنظيم مغلق تشكل في صورة حزبية عملياً قبل بداية العمل السياسي الحزبي الرسمي في أعقاب ثورة يناير 2011 بوقت طويل للغاية- كان النشاط السلفي في مصر أقرب لمفهوم التيار السلفي وليس الجماعة السلفية. بمعني أنه فضاء واسع من التحركات والأنشطة والإتجاهات والأفراد والمبادرات والمرجعيات يتحركون بشكل مستقل في مجالات عمل مختلفة دعوياً وخيرياً وإجتماعياً وثقافياً. ويعلم المتخصصون في الشأن الإسلامي أن خريطة التيار السلفي قبل الثورة قد ضمت فواعل متعددة مثل الدعوة السلفية (المعروفة أيضا بالسلفية العلمية أو سلفية إسكندرية) بنشاطها العلمي والدعوي والإجتماعي الواسع في الإسكندرية ومحافظات الدلتا ، والجمعيات السلفية المتعددة بتاريخها العريق مثل جمعية أنصار السنة المحمدية و الجمعية الشرعية بأنشطتها الخيرية والوعظية وأخيراً السلفية الحركية المتبلورة حول أشخاص مرجعيات سلفية من العلماء و المشايخ والوعاظ علي إمتداد المحافظات المختلفة و تحتفظ بإستقلالها عن الدعوة السلفية (مثل المشايخ أسامة عبد العظيم ومحمد عبد المقصود وفوزي السعيد وغيرهم). وعندما ظهرت للوجود فكرة الدخول إلي ساحة العمل السياسي في أعقاب ثورة يناير كان هناك منذ البداية إختلاف حول طبيعة الحزب السلفي أصلا وكيفية إدارة علاقته بالتيار السلفي بكل تبايناته الداخلية ومع الوقت تبلورتين رؤتين متمايزتين. الرؤية الأولي ترى أن نجاح حزب النور لن يأتي إلا عبر التمدد الأفقي بشكل يستوعب جميع الإتجاهات الجماعات والإجتهادات المختلفة داخل التيارات السلفية ومن ثم ضرورة بناء حزب يدار بشكل ديمقراطي ويفتح باب الحراك التنظيمي والسياسي أمام جميع قواعده مع إختلاف إتجاهاتهم بينما تري الرؤية الأخري أن حزب النور لابد أن يحتفظ بهوية عقائدية و فكرية واضحة ليحافظ علي تمايزه وإنضباط منهجه في العمل وهذا يستلزم الفرز واشتراط الولاء للمنهج المؤسس للحزب وهو منهج الدعوة السلفية بالإسكندرية تحديداً ومن ثم بناء الحزب رأسيا في هيراركية واضحة وآلية منضبطة ونخبوية لصناعة القرار بشكل فوقي عبر مجموعة محددة من أهل الثقة والولاء على غرار جماعة الإخوان المسلمين
وتحتفظ كلا الرؤيتين بحجج وأسانيد منطقية لإثبات صحة موقفها، فالرؤية الأولي تري أن الحزب السلفي المفتوح علي الجميع هو أمر ضروري في ضوء طبيعة التعددية داخل التيار السلفي كما أسلفنا و في ضوء التحولات المتسارعة داخل التيار السلفي- عقب الثورة- والتي تفرز جماعات و نزعات ونشاطات سلفية مختلفة و جديدة كل يوم و الكثير منها غير منظبط تنظيميا ولا يدين بالولاء للمرجعيات القديمة (مثل مؤيدي المرشح الرئاسي السابق حازم أبو إسماعيل والجبهة السلفية و غيرها من الجماعات المتفاوتة في القوة والإنتشار والشعبية) وتجربة الإنتخابات البرلمانية في 2011 أثبتت أن نجاح حزب النور في الإنتخابات لم يتأت إلا عبر حشد القواعد السلفية المختلفة علي إمتداد البلاد بشكل مرن وفضفاض و لم يقتصر فقط على جمهور الدعوة السلفية فحزب النور إعتمد علي كتلة ثابتة من المؤيدين قد لا تزيد علي 25% فقط من حجم التأييد الذي حصل عليه في الإنتخابات بالإضافة إلى كتلة غير ثابتة قد تصل إلي 75% وهي كتلة جوالة من المكن أن تتنقل من تأييد حزب سلفي لحزب آخر حسب ما يستجد.... بالإضافة إلى هذا ففكرة التنظيم الضيق المغلق (وهو مفهوم جماعة الإخوان بالأساس) صارت متقادمة- من وجهة نظر هذه الرؤية- وغير مواكبة لمتغيرات الساحة عقب ثورة يناير بالإضافة إلي أنها غير متوافقة مع طبيعة المنهج السلفي. فهناك المحاذير الشرعية الخاصة بفكرة البيعة للتنظيم والتي طالما كانت محل إنتقاد عند جمهور السلفيين و مصدر خلاف شرعي مع الإخوان و هناك أيضاً أولوية القناعة المؤسسة على الدليل - لا على السمع و الطاعة- في المنهج السلفي الذي من المفترض أنه لا يقدس القيادات عكس المنهج التربوي والتنظيمي للإخوان (في هذه النقطة من الصحيح أن الدعوة السلفية تعتمد في قوتها على إحترام الجمهور السلفي لمرجعياتها لكن يظل عامل التقديس أقل بكثير من الحالة الإخوانية).. من ثم فلابد أن يكون هناك فصل مؤسسي وإداري وسياسي بين الحزب كمؤسسة تتعامل مع مجال سياسي واسع و رحب و متعدد و متأول بطبيعته، وبين مؤسسة الدعوة السلفية بضوابطها وإلتزاماتها الصارمة والضيقة مع بقاء الأخيرة كحاضنة إجتماعية ودعوية .
على الجانب الآخر ترى الرؤية الثانية أن موقفها صحيح شرعياً و أقرب لتحقيق المصلحة، فإنه و إن كان نجاح حزب النور في الإنتخابات قد إعتمد بالفعل علي حشد مختلف الجماعات السلفية إلا أن عبء تأسيس حزب النور إضطلعت به الدعوة السلفية بشكل أساسي لأن مجلس أمناء الدعوة السلفية بمشايخه المرموقين (محمد إسماعيل المقدم وياسر برهامي وأبو إدريس وسعيد عبد العظيم وأحمد فريد وأحمد حطيبة) قد إحتل موقع الصدارة في دعوة جمهور التيار السلفي للإنخراط في العمل السياسي - في أعقاب الثورة- وفي تأصيل هذه المشاركة شرعياً و فقهياً (بالإضافة إلي تأصيل شرعية المشاركة في الممارسة الديمقراطية والحياة الحزبية) وقد إستلزم هذا فقها جديداً للضرورة و الموائمات يتميز عن فقه الضرورة الإخواني بخضوعه للضوابط الشرعية بشكل أكثر صرامة. وبصرف النظر عن مدي دقة إجتهادات علماء الدعوة السلفية في هذا الصدد إلا أنه الثابت أنها حظت بقدر عال من القبول من جمهور التيار السلفي في مصر بعد الثورة هذا بالإضافة إلي المجهودات التي بذلت في العمل الميداني عبر المؤتمرات الشعبية و اللقائات على إمتداد المحافظات في الشهور القليلة التي سبقت الإنتخابات البرلمانية. بالإضافة إلى هذا فالدعوة السلفية ظلت دائماً هي الفصيل السلفي الأكثر تنظيماً برغم التضييق الأمني في عصر ما قبل الثورة. فجمعية أنصار السنة المحمدية على سبيل المثال وإن كان وجودها الشعبي لا تنكره عين لكن سيطرتها المركزية والتوجيهية الإدارية على المساجد ظلت محدودة للغاية ومن ثم فشبكات الدعوة السلفية التي تأسست منذ أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات قدمت رصيداً تنظيما لا بأس به لحزب جديد يبدأ سياسياً من الصفر. إذن فالدعوة السلفية بتنظيمها ومشايخها ومرجعياتها كانت هي المكون الصلب لحزب النور من المنطقي أن تستمر في لعب هذا الدور. أيضاً – ومن منظور هذه الرؤية- هذا أقرب لتحقيق المصلحة لأنه وبرغم كل ما يقال عن مشاكل تنظيم جماعة الإخوان إلا أن التنظيم القوي والمنضبط للإخوان يبقى هو الرصيد الإنتخابي والسياسي الأهم للإخوان.
وعبر محطات عديدة شملت أداء حزب النور في مجلس الشعب المنتخب وملف العلاقات مع المجلس العسكري أثناء الفترة الإنتقالية ثم موقف الحزب من إنتخابات الرئاسة، عبر هذه المحطات كان التمايز بين الرؤيتين يزداد مع الوقت ويتبلور في صورة إختلاف واضح في الآراء و المواقف بين فريقين من القيادات داخل كيانات الحزب. وقد تحلق الفريق المتبني للرؤية الأولي حول الدكتور عماد عبد الغفور رئيس الحزب وضم وجوها سياسية شابة نشطت في المجال العام عقب الثورة مثل محمد نور ويسري حماد بالإضافة إلى بعض القيادات داخل الهيئة العليا للحزب مثل الدكتور بسام الزرقا و آخرين وإن كان هذا الفريق في معظمه من أبناء الإسكندرية أيضاً ومن المتأثرين بالدعوة السلفية (عماد عبد الغفور نفسه كان من مؤسسي الدعوة السلفية في السبعينات) ألا أنه أبدي ضيقا من تدخلات بعض مشايخ مجلس أمناء الدعوة السلفية في سياسات الحزب بشكل يراه لا يلتزم بقواعد العمل المؤسسية وآليات صناعة القرار داخل الحزب وقد ظهر هذا في قرار تأييد الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في إنتخابات الرئاسة على سبيل المثال وفي النشاط السياسي المكثف لبعض مشايخ الدعوة وعلى رأسهم الشيخ ياسر برهامي نائب رئيس مجلس أمناء الدعوة السلفية ومسؤول ملف الحزب وخاصة أن مواقف الشيخ برهامي السياسية المعلنة كانت في غالبيتها تنطلق من منطق الفتوي والدعوة والحلال والحرام وليس من منطق العمل السياسي وما يتطلبه من موائمات ومرونة و تأول وإختيارات بين تفضيلات متعددة. وقد أوقع هذا الحزب في مشاكل عديدة مع الفرقاء السياسيين. لكن كانت المحطة الأهم والتي فتحت الباب لتحول الإختلاف إلى صراع مفتوح هي مرحلة التحضير للإنتخابات الداخلية للحزب التي كان مخططاً لها أن تقام في سبتمبر 2012 فقد بدأت الشكاوي تتري من وجود محاولات واضحة من قيادات للحزب محسوبة على الرؤية الثانية لإقصاء الأصوات المخالفة وتوجيه الإنتخابات بغرض إعادة هيكلة الحزب لملء مواقع القوة و التأثير فيه على مستويات الإدارة الوسطي والقاعدية بالكوادر التي تدين بالولاء للرؤية الثانية وقياداتها ومشايخها. ونتيجة لهذا حدثت إستقالات عديدة من أمناء المحافظات وبالأخص في محافظتي الغربية والجيزة و ثارت علامات إستفهام عديدة حول ممارسات لجنة العضوية للحزب والتي قصرت حق الترشح للإنتخابات عليى عدة آلاف في حزب تصل عضويته إلى مايقرب من مائتي ألف عضو وكذلك أثير الكلام حول ضرورة إعادة بناء مؤسسات الحزب بشكل أكثر ديمقراطية و يراعي تمثيل قواعد الحزب في جميع المحافظات بدلاً من تركز مقاعد الهيئة العليا و مناصب القيادة في يد أبناء الإسكندرية كما هو الحال حالياً. وهنا قرر عماد عبد الغفور رئيس الحزب وقف الإنتخابات حتى النظر في هذه الأمور ولم تقبل الهيئة العليا للحزب (والتي يميل أغلب أعضائها لتبني الرؤية الثانية) هذا القرار بقيادة المهندس أشرف ثابت ويونس مخيون وجلال المرة و نادر بكار وآخرين وقررت المضي قدماً في إجراء الإنتخابات وقد أقيمت بالفعل في عدة محافظات. وقد قدم كل فريق ما يؤيد موقفه إستنادا إلي اللوائح المنظمة لعمل الحزب و تصاعدت الأمور حتي إنتهت إلى ما إنتهت إليه من إقالات متبادلة و إزداوجية في كيانات صناعة القرار داخل الحزب من رئاسة وهيئة عليا..
ويتحدث البعض عن إختلاف في المواقف أيضاً إزاء مسألة التحالف مع الإخوان في الإنتخابات القادمة فبينما لا يري الفريق الأول بأساً في هذا يفضل الفريق الثاني المنافسة بشكل مستقل عن الإخوان لكن تبقى هذه في تقديري مسألة عرضية والخلاف اللائحي أيضاً مسألة شكلية لأنه في حقيقة الأمر لا توجد قواعد إجرائية وتنظيمية دقيقة لحسم الصراع بين التيارين بكل سيولته. وقد تنجح محاولات المصالحة من مجلس أمناء الدعوة السلفية (بما لهم من ثقل روحي و إحترام و تقدير و خاصة أن بعضهم مثل الشيخ إسماعيل المقدم -وهو المرجعية الشرعية الأهم للدعوة السلفية- والشيخ سعيد عبد العظيم قد إحتفظ بإختلافاته مع طريقة الشيخ ياسر برهامي) في تخفيف حدة النزاع و لم الشمل مرة أخري لكن هذا سيكون بشكل مؤقت لأن الخلاف لم يكن خلافاً شخصياً أو صراعاً على القيادة بين الدكتور عماد عبد الغفور من جانب والمهندس أشرف ثابت أو الشيخ ياسر برهامي من جانب آخر وإنما هو خلاف في الرؤى من ثم فالخلاف مستمر طالما لم يتم حسم الإشكاليات الخاصة بالنموذج السياسي السلفي بشكل يحافظ على ثوابت المنهج السلفي ويستوعب المتغيرات المتلاحقة داخل الشارع السلفي السياسي والإجتماعي.
وماذا عن المستقبل؟
وماذا عن المستقبل ونحن على مشارف إنتخابات برلمانية قادمة؟ يتحدث البعض عن التأثير السلبي لأزمة حزب النور الأخيرة علي قدراته الإنتخابية وما إذا سيكون هذا لصالح الإخوان أم لصالح القوى المدنية لكن أعتقد أنه من المبكر بعض الشئ الحديث عن هذا فالأمر يرتبط بمدى نجاح جهود المصالحة الحالية في رأب الصدع ولو مؤقتاً داخل حزب النور لخوض الإنتخابات بشكل موحد وتأجيل حسم المتناقضات لما بعدها كما يرتبط أيضاً بمدى قدرة الأحزاب السلفية الجديدة (التي يزمع مؤيدو حازم أبو إسماعيل والجبهة السلفية تأسيسها لدخول الإنتخابات) علي بناء قواعد تنظيمية على الأرض قادرة على حشد الأصوات الإنتخابية ومنافسة شبكات حزب النور والدعوة السلفية على إجتذاب الصوت السلفي بالإضافة إلي مدى تطور قدرات حزب البناء والتنمية (الذراع السياسية للجماعة الإسلامية) في معاقله الجهوية في الصعيد وأخيراً يتعلق مصير الأصوات الإسلامية أيضاً بمدى ثبات أو تراجع شعبية جماعة الإخوان المسلمين أثناء الشهور القادمة الحاسمة بصفتها المنافس الإسلامي الأقوى وهذه العوامل سيكون لها الحسم في تحديد حصص الإسلاميين و لعبة توزيع الكراسي الموسيقية بين القوي الإسلامية المختلفة. أما مدى ثبات أو تراجع التصويت للكتلة الإسلامية ككل بقواها المختلفة فسيعتمد على قدرة القوي المدنية على المنافسة بالإضافة إلى حجم التصويت الإحتجاجي ضد الإسلاميين وهو ما لن يتضح إلا قبل الإنتخابات بوقت وجيز
لكن تبقى المسألة الأهم والمفصلية في تحديد مستقبل السلفيين هي مدى قدرة عقول و تنظيمات وحركيات الإسلاميين السلفيين علي إبتداع النموذج الخاص بهم في الممارسة السياسية والذي يختلف عن النماذج التي عرفتها الانظمة السلطوية العربية بحداثتها الإستبدادية وعن النماذج المنغلقة للقوى الإسلامية الأخرى التي طالما كانت محل إنتقاد من السلفيين ولكنه أيضاً نموذج قادر على التموقع داخل الجماعة الوطنية المصرية والتعامل مع عالم وآليات ومفردات السياسة الحديثة داخلياً و خارجياً. فكيف يستطيع السلفيون بناء علاقة صحية وفعالة بين التيار السلفي والحزب السلفي و كيف تتم هيكلة هذا الحزب بشكل مفتوح يستطيع به التعبيرعن إتساع و تعددية التيار السلفي من جهة لكنه يحافظ على قدر من الكفاءة التنظيمية والإنضباط المؤسسي اللازمين لمنافسة الإخوان والحفاظ علي موقع السلفيين في المجال السياسي الحديث التكوين في مصر من جهة أخري؟ وإلى أي حد سيتمكن السلفيون من التوسع في إستخدام فقه الضرورة في شرعنة الجديد والمستحدث – الذي تحتمه أحكام الواقع السياسي المحلي و الدولي- مع التمسك بالمنهج السلفي الكلاسيكي؟ وكيف يستطيع السلفيون الحفاظ على التمايز الأيديولوجي المطلوب مع الإخوان في ضوء ما يحدث فعلياً من تقارب في المواقف السياسية وفي ضوء سعي الإخوان لإستقطاب قطاع من السلفيين عبر إرضائهم بمواقع وإمتيازات عديدة ورضاء هؤلاء السلفيين بإعادة تشكيل الساحة بعد حصول كل فريق علي حصة ؟ كيف يواجه السلفيون ضغوط الفصائل الإسلامية الأكثر تشدداً وراديكالية على يمين الجسم السلفي الرئيسي الذي إنحاز للعمل السلمي والبناء التدريجي (من باب الواقعية وأن "نواميس الكون لا تخرق") وخاصة إذا ما فشلت السلفية السياسية وممثلها الحالي حزب النور في تحقيق نجاحات عقائدية ملموسة من المنظور السلفي مثل تطبيق معايير إسلامية أكثر صرامة، مثلاً فيما يخص الخمور والسياحة وباء "الإقتصاد الإسلامي" وضمان "إسلامية الدولة" في الدستور الجديد والوجود القوي في الحكومة بشكل يمكنه من تصحيح الأمور إسلامياً ولو بعد حين ؟ الجدير بالذكر هنا أن إحتمالية الفشل في تحقيق ما سبق لن تؤدي فقط إلى زيادة الوزن النسبي للقوي الإسلامية المتشددة على يمين السلفية ولكنها قد تؤدي أيضا إلي يأس جماهير السلفية من العمل السياسي و إنصرافهم عن السياسة والتفرغ للدعوة مرة أخرى في ضوء ما يرونه من "عدم جاهزية الواقع المصري لحكم الشريعة والإسلام" وهو إتجاه قد بدأت بوادره في الظهور مؤخراً عند البعض منهم.
وأخيراً كيف سيتمكن السلفيون من مواجهة التأثير السلبي للتسييس المفرط علي العمل السلفي الدعوي ورصيده القيمي في الوجدان الشعبي؟ وهذا السؤال له أهميته الخاصة في ظل أن الثقة الشعبية في السلفيين وشبكاتهم الحاضرة على المستوي المحلي تبقى مصدر قوة رئيسي للسلفيين إنتخابياً وفي ضوء تضخم الإنشغال بالمجال السياسي هل سيستطيع السلفيون التمسك بفرضية الحركة الإسلامية الأصلية عن العمل السياسي بوصفه نقل السياسة من السياسي إلى الدعوي والأخلاقي والإجتماعي؟
كل هذه الأسئلة ستتحدد إجاباتها في ضوء المتغيرات والمستجدات المستقبلية- و يجب أن لا نغفل هنا دور العامل الدولي والإقليمي في التفاعل مع المد السلفي- ومن الوارد أن نشهد صعود أطر حزبية جديدة تحل محل حزب النور إذا ما عجز عن الإستجابة لهذه التحديات لكن من المؤكد أن الحركة السلفية - والإسلامية في العموم- تسطر فصولاً جديدة في تاريخها الطويل.